.في المظاهرات التي تدعو إلى تغيير النظام،أغاني أصبحت اناشيد للمظاهرات. يقارن الكاتب صلاح باديس نسختين من واحدة من أكثر الأغاني رمزية وما تقولونه عن المجتمع الجزائري
في أغنيته « لا ليبارتي » (الحرية) يقول سولكينغ: « إذا ما تكرّر السيناريو / سنكون نحن من يحقق السلام. » صدرت هذه الأغنية بعد أسابيع قليلة من بداية الحراك الشعبي في الجزائر يوم 22 فيفري 2019. جاءت لتُرافِق المتظاهرين، على ضفتي المتوسط، ولتُعبّر عن موقف المغني الشاب المشهور المنحاز للشعب، خاصة أنها –أي الأغنية- نُسخة « فرنسية اللغة » لأغنية Ultima Verba لمجموعة « أولاد البهجة » التي اتّكئ الحراك على أغانيها منذ البداية.
لكن الفرق بين نسخة سولكينغ والنسخة الأصلية لـ « أولاد البهجة » ليس لُغة نص الأغنية ولا الفرق الهائل للمشاهدات على يوتيوب (سولكينغ تجاوز 120 مليون، بينما وصل أولاد البهجة لـ 9 ملايين مشاهدة)، بل يكمن الفرق في تعريف كلمة لا ليبارتي/الحرية.
ففي حين ترتبط الحرية عند سولكينغ بسيناريو قديم (أو بتاريخ أعاد نفسه) أي بالماضي الذي يعود في ثوب الحاضر، نجِدُ ألتراس فريق اتحاد العاصمة يثورون على وضع حاضر أشدّ تعقيدًا من الماضي بل ومفتوح على المستقبل. صحيح أنهم ينصّبون أنفسهم –و »من دون شك »- كذريّة لسلالة تاريخية، لكنهم لا يحملون سيناريوهات الأجداد بل يواجهون السيناريوهات التي وضعتهم الحياة فيها، أي أنهم لا ينتظرون دورة التاريخ وتكراره كي يحققوا السلام والحرية بل يواجهون الحاضر بكل تعقيداته وسيناريوهاته الجديدة… فنجدهم يطالبون بإسقاط الدولة واللّي خدموا لوطوروت (الطريق السريع) بل وينصّبون أنفسهم كابتلاء لأصحاب السلطة.
فكرةُ عودة الماضي أو تكراره ليست غريبة عن الجزائريين عمومًا؛ خاصة بعدما عاشوا مع نظام استخدم التاريخ لصالحه وزوّرَه واستمدّ منه شرعيته المفقودة ثم أفرغه من معناه. هنالك شعورٌ جماعي بأنهم فوّتوا منعرجا ما ويجب عليهم تداركه، ولن يصحّ حاضرهم ولا مستقبلهم إلا بتصليح ما مضى. لذلك وجدتُ، على سبيل المثال لا الحصر، الكثير من المتظاهرين، خلال المسيرات، يُعيدون –بوعي أو بدونه- تمثيل لقطات من أفلام ثورية وعلى رأسها « معركة الجزائر »، وأذكرُ هنا مسيرة ذكرى يوم الاستقلال 5 جويلية، عندما رأيتُ أكثر من شخص يصرخ وسط الجموع « الاستقلااااال » ليجيبه صوت آخر « أخرجوا من بلاااادنا »، وهي محاكاة كاملة لمشهد من « معركة الجزائر ».
وضعُ الماضي كمقياسٍ للحاضر هو تضييقٌ لمساحة نضال الأفراد والشعوب. القولُ مثلا أن مساجين الرأي اليوم في الجزائر يشبهون مساجين الثورة خلال فترة الاستعمار يعني أن هذا الشعب لم يتحرّك خطوة إلى الأمام، وأن مساجين اليوم لا قيمة لهم سوى بمقارنتهم بما مضى. مقارنة كل حدث جديد بـ « سيناريو » من الماضي يجعل حاضرنا بلا قيمة إذا ما لم يتطابق مع نضال سابق أو لم يكُن امتدادا له… كأن هذا الماضي لا يمكن تجاوزه، وأقصى شيء يمكننا فعله هو الاقتراب منه وتكراره.
لذلك أجدُ أن الفرق بين سولكينغ و »أولاد البهجة » هو سؤال واحد: ماذا لو لم يتكرّر السيناريو القديم وجاءت مكانه سيناريوهات جديدة؟ أو بصياغة أخرى: ماذا لو اضطرّ الجزائريون لمواجهة أعداء جُدد وقضايا ونضال من نوع جديد، ماذا سيفعلون؟ هل سيصنعون حاضرًا جديرًا بهم ويفتحون ميادين جديدة للمُمْكِنْ أم سيتخاذلون ويستسلمون مادامت نضالاتهم لا تُشبه نضالات آباءهم وأجدادهم؟
أولاد البهجة، وبوصفهم ألتراس لفريق كروي معروف وله قاعدة جماهيرية شعبية كبيرة، حسموا أمرهم منذ البداية ككل الفرق التي تنشط في مجالهم في كل أنحاء العالم. هم يمارسون السياسة يوميًا. يصطدمون مع ما يسمّونه الدولة ويدفعون من حياتهم وصحّتهم وأعمارهم ثمن هذا الاصطدام. حيث الدولة هنا ليست مؤسسات فقط بل هي القوة والسلطة التي تحتكر العنف المشروع. الدولة التي تمتد من أصغر قوّاد حتى الرئيس، والذي لم تتوانى المجموعة الغنائية في استهدافه بأشهر أغنية لها « لاكازا دل مرادية ».
قد يبدو هذا التحليل للبعض سطحيًا، خاصة أن كلمات أغنية سولكينغ كُتِبَت في عُجالة كي تلحق بداية الحراك الشعبي وخاصة أن الحرية كلمة لا تعريف لها مثل كل الكلمات الكبيرة، لكن يكفي أن نُقارن « لا ليبارتي » التي جاءت بعد شهرة عالمية لسولكينغ مع « غيرِيا » (Guérilla) التي غنّاها صُدفة في محطة راديو وفجّرت شهرته. سنجدُ أنّ « غيرِيا » أقرب لأولاد البهجة من سولكينغ الجديد، حيث يقولها صراحة: « الآخرون وأولادهم أخذوا كل شيء / لذلك سأسرق من عند الأغنياء ».
هذه الراديكالية في التعاطي مع « الأشرار » غابت لاحقا عندما صار جزءٌ من هؤلاء « الأشرار » أو لنسميهم « الأغنياء » ينتجون أغاني سولكينغ. هذا لا يعني أن سولكينغ تنكّر لخلفيته الشعبية، لكن الأمور والخطاب تغيّر، لأنه تمكّن من تغيير ظروفه وحياته.
أما راديكالية أولاد البهجة فهي قائمة على راديكالية ذلك القطاع العريض من « أبناء الشعب » الذين منحوا للحراك قوّته منذ البداية، وكسروا بأجسادهم حواجز الشرطة وفرضوا تلك الكلمة السحرية « السلمية »، والتي مكّنت بقية الطبقات الاجتماعية من الخروج والتشجّع للنزول والتظاهر. لكن « أبناء الشعب » سُرعان ما انتُقِدوا بل وشُتِموا من أولئك الذين وصلوا متأخرين إلى الحراك وأرادوا فرض رؤيتهم « الاستراتيجية » لتسيير الثورة، والسبب هو « راديكالية » أبناء الشعب الذين أرادوا دائما كسروا كل الحواجز والوصول لمبنى الرئاسة في المرادية. لم يفهم مستمعو « لا ليبارتي » (نسخة سولكينغ) لماذا يريد الشعب قطع رأس الملك ولا يكتفي بالتظاهر في وسط العاصمة.
لم يفهم أبناء الطبقات المرتاحة والمترددون والمطالبون بنصف حرية لماذا يريد أبناء الشعب وجماهير كرة القدم (أو « العرايا » كما يُسميهم المجتمع المحافظ) الحصول على حرية كاملة غير منقوصة، لم يفهموا إصرارهم وثقتهم في المستقبل ولا مبالاتهم بالماضي، لم تفهم الأغلبية الصامتة والمحافظة لماذا كان أولاد الشعب يريدون إخافة الغول وكسر شوكة آلات العنف المشروع، لم يفهم المتخاذلون لماذا يريد هؤلاء الشباب المُضي قُدُمًا وكسر كل الحواجز والحصول على أكبر قدر من المساحة للتظاهر والاحتجاج ولماذا لم يلتفتوا عند كل شارع كي يتأكّدوا إذا ما كان الحاضر الذين يعيشونه يتطابق مع سيناريو قديم أم لا…
صلاح باديس
صلاح باديس، كاتب ومترجم، يعمل ويعيش بمدينة الجزائر